عدد رقم 50 ل 18 - 11 - 2011

عدد رقم 50  ل 18 - 11 - 2011

الأحد، 20 مارس 2011

الحركات الإسلامية بالوطن العربي.. تونس نموذجا كرونولوجيا العمل الإسلامي الحركي التونسي قبل التتويج بثورة الياسمين


كيف نشأت الحركة الإسلامية بتونس؟ وكيف تطور خطابها؟ وما هي العوائق التي جعلت الحركة الإسلامية لا تحتل مكانا سياسيا ضمن منظومة المجتمع المدني؟ وهل سقطت الحركة الإسلامية التونسية سقطت ضحية تسييسها؟ وما هي طبيعة تعاطي المجتمع التونسي مع الحركات الإسلامية؟
يمثل ضيف هذا العرض، كتاب "الحركات الإسلامية بالوطن العربي: تونس نموذجا" لمؤلفه الباحث التونسي اعليه علاني، محاولة جادة للإجابة على مختلف الأسئلة المؤرقة والمرتبطة بالتجربة الإحيائية (بتعبير رضوان السيد) في الحالة التونسية.
جاء الكتاب موزعا على مقدمة ومدخل عام لدراسة الظاهرة الإسلامية الحركات الإسلامية بالوطن العربي تحديدا، وثمانية فصول تستعرض كرونولوجيا العمل الإسلامي الحركي في تونس، مرفق بتقييم المؤلف، تأسيسا على عدد كبير من المراجع والشهادات واللقاءات التي أجراها مع قيادات الحركة.
لا بد من الإشارة المنهجية إلى أن الكتاب صدر قبل اندلاع ثورة الياسمين الأخيرة، والتي جعلت القيادي الإسلامي التونسي راشد الغنوشي يعود للوطن بعد طول غياب، وجعلت السلطات التونسية تعترف أخيرا، بحزب النهضة، على غرار باقي الأحزاب السياسية، وجعلت الباحثين والمراقبين العرب يعيدون النظر في العديد من الأحكام والتصورات حول واقع الحركة الإسلامية التونسية، وهذا ما دفع السياسي التونسي المخضرم أحمد المستيري للتأكيد في تصريحات إعلامية أنه من "الضروري أن نعتبرهم ـ يقصد أعضاء حزب النهضة ـ جزءا من الحظيرة الوطنية. لماذا نقصيهم؟ لكن بن علي أصر على إقصائهم، بل إن بعض الأطياف السياسية ساندته في هذا التصور ولم يكتفوا بذلك بل برروا مبادرته للتهجم على النهضة، ثم سرعان ما تبين لهم أن موقفهم كان الغلطة الكبرى لأن بن علي بعدما قضى على حركة النهضة، وافتعل قضايا سياسية لها، جاء دورهم، وتصرف معهم بنفس الأسلوب الذي تصرف به مع النهضة، فكان نظاما ديكتاتوريا لا يقدر فيه إنسان على التنفس إلا بعدما يأخذ الإذن من السلطات".

+++ أسباب الإحيائية التونسية
يحصي المؤلف العديد من الأسباب التي تقف وراء ظهور الحركة الإسلامية في تونس، لعل أبرزها تبعات حركة العلمنة التي قادها الرئيس السابق عبد الحبيب بورقيبة منذ الاستقلال، ونستحضر هنا من باب التذكير صدمة الحملة التي شنها بورقيبة ضد الصيام في رمضان، ويمكننا إضافة أسباب أخرى، منها تحجير كل الحركات السياسية، أي منع التعددية السياسية وتجميع كل المنظمات الشبابية تحت لواء الحزب الحاكم وإخضاع القيادة إلى إدارة الحزب باللعب على التناقضات داخل القيادات.
بالنسبة لمأزق العلمنة، يتوقف الكاتب كثيرا عند نتائج تقليص نفوذ الزيتونيين، (نسبة إلى جامع الزيتونة) طلبة ومشايخ رغم كثرة عددهم مقارنة بعدد تلاميذ المدارس العمومية، على اعتبار أن التعليم الزيتوني لم يتأقلم مع المناهج البيداغوجية والعلمية الحديثة، كما أن مشايخ الزيتونة في بداية الحقبة الاستعمارية أفتوا بأن المطالبة بالدستور تعتبر خروجا عن الإمام الذي تجب له الطاعة، وجعلوا بالتالي الاستعمار أمرا مقبولا، ولو أن قراءة أخرى لعياش بن عاشور، تصب في التقزيم من تأثير "السبب الزيتوني"، مُلاحِظا أن تصفية المؤسسة الزينتوية لم يفض بالضرورة إلى ظهور الحركة الإسلامية، ومُستشهِدا بالحالتين المغربية والمصرية، حيث لم يمنع وجود جامع القرويين وجامع الأزهر من صعود حركات إسلامية قوية موازية للمؤسسات الدينية الرسمية، قبل أن يسرد خمسة أسباب رئيسية تساهم في تفسير أسباب ظهور الحركة الإسلامية التونسية، وهي: التحولات الاجتماعية العميقة، اضطراب واختلال التوازن الطبقي، أزمة السكن والتضخم والبطالة، أزمة النظام في سنة 1969 (الإحالة هنا على فشل تجربة التعاضد التي كانت تقوم على اشتراكية قهرية، وتلاها انخراط السلطة الحاكمة في تجربة ليبرالية متوحشة)، وأخيرا، اختلال توازن القيم الأخلاقية في المجتمع.
على أن الإسلاميين يرون أن هناك سببا رئيسيا آخر في ظهور "الحركة الإحيائية"، ويتمثل في "طمس الهوية الإسلامية للمجتمع ونقل المثال الغربي بحذافيره دون مراعاة خصوصيات البلاد وتقاليدها".
يجزم المؤلف أن المشكل الرئيسي بين الحركة الإسلامية والسلطة في تونس يتحدد حول طبيعة العلاقة بين الدين والدولة (على غرار ما هو قائم في علاقة أغلب الحركات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي مع الأنظمة الزمنية الحاكمة)، فالإسلاميون كانوا ينادون في تلك الفترة بالدولة الدينية التي تطبق فيها الحدود الشرعية بحذافيرها، في حين أن السلطة، برأي الباحث بول بالطا "اختارت منذ الاستقلال علمانية ليست في حالة قطيعة فكرية ومرجعية مع الإيديولوجية الإسلامية الحركية، بدليل وجود هذه العلاقة المتوترة مع المؤسسة ووصاية الدولة على الشعائر الدينية واستفادتها من الرموز الثقافية التقليدية، لتبرير الإيديولوجية الوطنية التي كانت تبحث عن موطئ وسط فضاء تقليدي، إن "أدلجة الإسلام خلال السنوات الأولى من الاستقلال، كانت أدلجة تستجيب لحاجيات أساسية وتعبوية يرتكز عليها النظام السياسي، لغاية فرض القيم الإسلامية".

+++ أخطاء النظام البورقيبي
مأزق الدولة الأكبر، أنها حاولت أن تتعامل مع الدين من منظور تحديثي لا سلفي، وهو ما جعلها تدخل في صراع مع بعض الزيتونيين، وكان من نتائج حذف التعليم بجامع الزيتونة سدّ الآفاق العلمية والعملية أمام عدد كبير من الشباب الذي لا يتحدث إلا بلغة واحدة (العربية)، مما أجبر العديد من هؤلاء للهجرة إلى المشرق العربي وخاصة إلى مصر لإتمام دراستهم، وكان من الطبيعي أن يُكنّ هؤلاء الشبان كراهية لبورقيبة ويتعاطفون مع كل الأفكار العربية والقومية وخاصة الناصرية. كما أن قطع العلاقات الدبلوماسية بين تونس ومصر في الستينيات أجبر عددا من هؤلاء الشبان على الهجرة من جديد، فاختار البعض منهم دمشق باعتبار أن بعض شُعبِها مُعرّبة تماما، وكان ضمن هؤلاء المهاجرين راشد الغنوشي الذي سيُصبِح بعد سنوات قليلة المسؤول الأول عن حركة ستُعرَف فيما بعد بـ"حركة الاتجاه الإسلامي" التي ستشهد أولى المحن في محاكمات 1981، في عز مرحلة الوجود شبه القانوني للحركة، واتسمت على الخصوص بغموض الجانب الإيديولوجي والتنظيمي في برنامجها، برأي المؤلف، فـ"مشروع الحركة يرتكز على رفض لائيكية النظام البورقيبي دون تقديم بديل مجتمعي للحكم"، بتعبير الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا.
لقد استمدت الحركة الإسلامية التونسية قوتها من أخطاء النظام البورقيبي (ويضيف المؤلف أيضا ما وصفه بالنفوذ المالي الكبير)، أو النظام الذي "تعامل مع المسألة الدينية بشكل اعتباطي وانتهازي، حيث أظهرت السلطة عداء مكشوفا للقيم الدينية، مما أثار حفيظة شق كبير من الرأي العام الذي تعاطف تلقائيا مع الحركة الإسلامية.
والملفت للانتباه أن هذا التعاطف الكبير الذي حظيت به الحركة بين سنتين 1981 و1987 لم يتم تكريسه عمليا، حيث يؤاخذ المؤلف على الحركة الإسلامية سوء فهم طبيعة المجتمع التونسي الذي يمكن أن يتعاطف مع مجموعة منه مع أخرى مضطهدة لكنه لا يجازف بالتمرد بسهولة على السلطة القائمة، وهو ما أكده على الخصوص القيادي عبد الفتاح مورو.

+++ أخطاء "الاتجاه" و"النهضة"
جانب المؤلف الصواب، منهجيا على الأقل، في معرض الحسم مع الأسباب الذاتية والموضوعية التي تقف وراء تواضع تأثير الإسلاميين التونسيين على المجتمع، فمرة يتحدث عن سببين (كما نقرأ في الصفحة 11)، ومرة ثانية يضيف سبب آخر في صفحة أخرى، وفي صفحة ثالثة، قبل أن يتوقف عند سببين آخرين في موقع آخر من الكتاب (ص 250)، وهكذا دواليك، وإجمالا يمكن حصر أهم هذه الأسباب في النقاط التالية:
ـ هناك أولا تبعات المقاربة الأمنية التي تبتها السلطة مع الحركة الإسلامية، والتي توصف عند العديد من الباحثين بأنها استئصالية.
ـ تبني استراتيجة العنف والتصعيد (تأسيسا على ما خلص إليه مؤتمر المنار في كانون الأول (ديسمبر) 1986) ظنا من قياديي الحركة أن ساعة الخلاص اقتربت، ولذلك حرضت الحركة قواعدها الطلابية على مضاعفة نسق المسيرات والمظاهرات العنيفة.
ـ اعتماد الحركة طيلة فترة السبعينات والثمانينات على ازدواجية الخطاب (ديمقراطي وكلياني) والقيادة (سرية وعلنية) مما أثار العديد من التساؤلات لدى الرأي العام والمنافسين السياسيين، إذا أخذنا بعين الاعتبار موقف الحركة من قضية الديمقراطية واعتبارها مرحلة انتقالية لا خيارا إيديولوجيا استراتيجيا مثلما ورد بالوثيقة السياسية المقدمة للمؤتمر الوطني الرابع لحركة.
ـ من الأسباب المتداولة أيضا، اجتهاد الحركة في فرض بديلها المجتمعي من خلال الانغراس داخل النسيج المؤسساتي للمجتمع من معاهد وكليات وجمعيات ونقابات وحتى داخل الأحزاب بما فيها طبعا الحزب الحاكم، لولا أن البديل لم ير النور لافتقاد الحركة لخطة عمل واضحة ولبرنامج مفصل عدا ما هو موجود من تصورات عامة أو تبني خيار المواجهة والتصعيد. ويستشهد الكاتب هنا بما صدر عن عبد الباقي الهرماسي من أن الحركة "حاولت أن تكون تونسية صرفة لكنها فشلت بسبب ثقل الانتماء للإخوان المسلمين وفي فترة لاحقة لصلاتها الوثيقة بحسن الترابي القيادي الإسلامي في السودان إلى غاية فترة التسعينيات.
من بين الأخطاء الأبرز التي ارتكبتها الحركة، ما أكده صلاح الدين الجورشي (القيادي السابق بالحركة والوجه البارز حاليا بالتيار الإسلامي التقدمي)، ونتحدث عن زرع جهاز أمني داخل أحشاء التنظيم، فينا اعتبره الشاهد "أهم الأخطاء التنظيمية والسياسية"، مبررا ذلك في ثلاثة أسباب: أولها ضعف الفكر الديمقراطي داخل الاتجاه الإسلامي، ثم عدم استيعاب القيادات للدرس الإخواني حيث انفجر لغم الجهاز الأمني الخاص، وأخيرا، هيمنة عامل الخوف من أن يحصل للإسلاميين في تونس ما حصل للإخوان في مصر من تشريد وتعذيب.
ويرتبط آخر الأسباب بتأثير التصدعات التنظيمية لقيادة الحركة سواء في الداخل أو في المهجر، مما يحيلنا على تقييم تجربة الخارج، حيث يلاحظ الكاتب أن التجربة لم تكن أحسن حالا إذ أنها أصبحت تمثل، في نظر بعض المقربين من الحركة (منهم على وجه الخصوص القيادي السابق احميدة النيفر)، "سلبية مضاعفة، فلا هي حققت تأييدا عربيا ودوليا ولا هي استطاعت إنفاذ جسمها التنظيمي من التفكك، وتركزت نضالاتها في فترة التسعينات من القرن الماضي على مسألة الإفراج عن المعتقلين". أما صلاح الدين الجورشي، فيرى أن "الإنجاز الوحيد الذي حققته مرحلة المهجر هو أن الحركة بقي لها رأس يدافع عنها، لكن السلبيات كثيرة أبرزها ضعف واضح في أداء الجهاز التنظيمي وانسحاب عدد هام من الكوادر".
صحيح أن الإسلاميون في تونس نجحوا في فرض خطابهم على بعض التيارات الاجتماعية التي تنتمي في معظمها للطبقة الوسطى أو لقطاع التلاميذ والطلبة، لكنهم مع ذلك لم يتجذروا في الأوساط العمالية رغم تواجد بعض القياديين منهم في مواقع نقابية، مما يطرح تساؤلا حول مدى تفاعل الفئات الاجتماعية.

+++ ما بعد بورقيبة
مثلت نهاية الحكم البورقيبي منذ بداية 7 نوفمبر 1987، مُتنفّسا كبيرا بالنسبة للإسلاميين الذين انخرطوا في تلقائية في مساندة حركة التغيير وعبّر الغنوشي صراحة عن تأييده لبيان 7 نوفمبر الذي يحدد أبرز ملامح مرحلة ما بعد بورقيبة، والتي واكبت التحول لدى الإسلاميين أيضا، من "حركة الاتجاه الإسلامي" إلى "حركة النهضة". وبعد ستة أشهر من إزاحة بورقيبة، خطت الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس زين العابدين بن علي على خطوات هامة نحز نزع فتيل الأزمة، من خلال الإفراج عن معظم قيادات الاتجاه الإسلامي.
ورغم ذلك، تم الدفع بـ"التشريك السياسي" للحركة من خلال مبادرات ثلاث، جاءت أولاها عبر دخول حركة النهضة للمجلس الأعلى للميثاق، مُمثّلة في شخص المحامي نور الدين البحيري، وجاءت الثانية عبر دخول الحركة المجلس الأعلى في بداية 1989 مُمثّلة في الرمز الثاني للتنظيم، عبد الفتاح مورو، قبل المحطة الأهم، وتمت عبر المشاركة في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 والتي لم تستثمرها الحركة بشكل جيد، بل وعادت عليها بالوبال وأنهت عمليا ورسميا عقد الوفاق الذي كان بينها وبين السلطة من جهة، وبينها وبين العديد من القوى السياسية من جهة أخرى، إذ اعتبرت الحركة أن الانتخابات كانت فرصة ذهبية لإبراز قوتها والتعريف بمبادئها من خلال الحملات الانتخابية، حيث وضعت كل ثقلها في الانتخابات ماديا وأدبيا وبشريا وسوّقت لخطاب تعبوي يعتمد على شعارات قديمة من قبيل التأكيد على أن الإسلام هو الحل، واعتبرت السلطة وبقية المجتمع المدني أن خطاب "النهضة" خطير وأن التزامها بالوفاق لم يعد له أساس من الوجود كما أن المتربصين بالحركة من داخل السلطة وجدوا في الاستحقاق الانتخابي الفرصة الملائمة لدق ناقوس الخطر، ليقرر الغنوشي بعد شهر من الانتخابات مغادرة البلاد، بعد أن طلب إذنا بالخروج لأداء فريضة الحج في ماي 1989، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد إلى أرض الوطن.
يختتم المؤلف عمله بالتأكيد على أن ترشيد الظاهرة الإسلامية بتونس مرتبط بجملة من العوامل الذاتية والموضوعية، منها إسراع القيادة الإسلامية بمراجعات فكرية، تحدث عنها بعض قياديي "النهضة"، ومنها أيضا تعميق التجربة والممارسة الديمقراطية في المجتمع من خلال الحسم الجماعي في ثوابت تضمن حماية الدولة والمجتمع من أي اهتزازات.

الرباط. ما وراء الحدث


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق