الصياغة الدستورية ركن العمل الأول لإنجاز دستور، لأن الأصل فيه الديباجة، وهو كذلك عند فقهاءه، فالدستور ديباجة كل قانون فرعي يتمثله أو يتمثل به ؛ وعليه :
- لا يمكن دسترة الجهة دون إعلان المغرب دولة – أمة the nation-state? وبالتالي لا يمكن كما ورد في ورقة الاتحاد الاشتراكي أن يكون الملك ممثلا أعلى للدولة فقط، بل للأمة حفاظاً على الوحدة.
ويتعين أن تتحدد رمزية الأمة واعتبار الدولة نظاما، لأن الأمن الجمعي يجمع بينهما يقول Gordian Knot إن السيادة الوطنية national sovereighty لا يكون بغيرها الأمن الجمعي collective security وأوله أن الدستور يصدر على إثر ميثاق جهوي أو للجهات، وفي عدمه يطرح الوضع إشكالاً، لأن من الضروري أن يكون الميثاق معضدا لأمن يعزز السيادة الوطنية. ويكون بمعنى شامل : عدم وجود أسلحة في يد الجهة، فالتوحيد الكامل للأجهزة الأمنية جزء من هذه الهوية.
- لا يمكن أن يُدَسْتَرَ التقطيع الجهوي، وإلا كان الانتقال إلى الفيدرالية مسألة وقت، ثم لا تحمل الجهة أسماءها الريف أو مراكش... بل الجهة الشرقية، والشرقية الوسطى، والشرقية الأقصى، والشرقية المركز... على سبيل المثال.
الجهة لاتكون اسماً تاريخيا أو اسم علم، حتى لا يقال عن اللفظ أمازيغي أو عربي أو غيره من التقسيمات المعروفة أو يكون المطلب في الجهة مطلبا غير وظيفي أو تقني.
واعتماد الاسم الجغرافي جزء ذكي لجمع الوظيفي والتقني إلى الديمقراطي والمساواتي Equality وهذا المربع يخدم الجهة والوطن دوماً.
- دسترة الجهة تستوجب ضرورة دسترة النظام الجهوي، فلا يعقل أن تكون البنية دون نسقها في الدستور، فالأخذ بالجهة ونظامها قاعدة دستورية (rule) يترتب عنهما تمثيل شعبي لإدارتها الذاتية، وكل إدارة ذاتية - من خارج الدولة/الأمة - دولة لم تكتمل، تطلب شروط اكتمالها. فالديمقراطية ليست وسيلة تدبير وحكامة بقدر ما هي شعب إقليم تحت ظروف قابلة للإدارة، بمعنى أن الجهة تدبير إداري مفوض من الإدارة العامة، وتشكل مرفقاً جهويا لخدمة الدولة المدنية الواحدة.
إننا أمام نمط يميز الحكومة الجهوية واشتراكها على أكثر من مستويين على الأقل مع الحكومة المنسِّقة.
والتساؤل : هل الحكومة الوطنية حكومة تنسيق فقط coordinate وإن لم تكن، كيف يمكن أن ننتج معنى للوحدة دون أن تتداخل الوظائف الانتخابية.
الاقتراح المغربي لعزيمان يرفض "ازدواج الوظيفة الانتخابية" فكيف يمكننا أن نقرر الوحدة وذاتية الجهة في مستويين حسب الفقهاء الدستوريين. قد يكون المعنى في هذه الحالة : ازدواج الوظيفة الإدارية فيتأكد أن الوظيفة الانتخابية إدارية في الأساس.
ونقرأ في دستور ألمانيا منذ 1871 مؤسسة الجهة من دون معنى انفصالي لمستويات الحكم بين المركز والجهة، وهو ما أخذت به أمريكا حسب Kenneth فالدسترة تتم عبر تداخل على أكثر من مستوى بين المركز والجهة، به تكون كياناً عبر المركز فيما يدعى "مساواة" المداخيل equalizing.
- دسترة الجهة لا يكون بدون سلطة فيدرالية في المركز وأخرى في الجهة، حيث يتم التقسيم على أساس السلطة التشريعية والمعنى الإداري وقرار الصرف.. على أن تكون طبيعة النظام الجهوي جزءا من النظام العام للمملكة.
الفقه الدستوري يوجب نصا القول : أن النظام الجهوي مستوى من مستويات النظام العام للمملكة.
الجهة – بهذا التحديد – تؤمن أنها طبيعة حكم، فلديها برلمان لكن اختصاصاته تطرح إشكالاً، فهل يمكن تحديد عمل البرلمان الجهوي، وكيف له ذلك بما يجعله (مصطلحاً ثابتاً) لا يتميز في تشريعه عن غيره في المركز، ولا يكون فاعلا "تشريعيا" إلا بما يساهم في العمل المركزي.
أمر أن يصدر البرلمان وحده القوانين أمر محسوم لأن السلطة التشريعية متميزة عن بعضها البعض، لتمايز الجهات. فإطلاق الحكم الذاتي والجهات يضع من البدهي تخويل البرلمان "الحق وحده في إصدار التشريعات".
اقتراحات الأحزاب لتعديل الدستور تعمل على خلفية مركزية، وغير جهوية، والنظام الجهوي يفرض إصلاحات جذرية مكتسبة لا تتطلب التنصيص عليها.
انطلاق الأحزاب من المركز وإليه شكل عقماً حقيقيا في انتقال الدولة من النظام المركزي إلى اللاممركز. وتكون في هذا الإطار دسترة (استقلالية العضو البرلماني للجهة) بما يعني أن الحصانة البرلمانية تدخل في طبيعة الدولة.
أولا، لأن إقرار نظام جهوي من طبيعة الدولة السيادية.
ثانيا، مساواة المنتخب الجهوي بالمركزي، لعدم الجمع بين التمثيليتين.
ثالثا، وجوب تثبيت المعنى الدستوري للجهة من خلال التصويت الجهوي على قوانين المركز، إذ يجب أن يسقط قانون صوت عليه برلمان المركز إن عارضته برلمانات ثلثي الجهات، وهذا الفيتو وجبت دسترته نصا.
وهو ما يطلق عليه (التأويل الدستوري للجهة) constitutional interpretation لأنه بغير هذه الورقة لا معنى للجهة إلا في تصريف قرار المركز.
رابعا، إعلان محكمة إدارية عليا تهتم بنزاعات الجهات فيما بينها، دون تدخل المركز، لتغليب القانون العام على القانون الجهوي، والأخذ بالقوانين الإدارية للمملكة بما يفيد المصلحة، ويكون دور هذه المحكمة تكميليا بما يناسب عدم تغليب مصالح المركز على الجهات أوأي جهة على أخرى.
إننا أمام قوانين يكون فيها الدستور Basic law بالإضافة إلى دستوريته من خلال اعتباره "قانوناً رئيساً" لتشريع الجهة ومن ثم للمحكمة الإدارية العليا supreme.
وبهذا التدقيق أجد من واجبي أن أذكر تعزيز الرابط على أساس أن يكون للجهوي محلي، ليكون – بالضرورة – للجهوي مركز. فالجملة الدستورية يجب أن تراعي : تصريف العمل الجهوي في إطار وطني، وتكليف الجهة بما يترتب عن الوطني، والدفاع عن مصلحة الجهة كمصلحة صرفة أو خالصة.
خامسا، اعتبار الجهة "بنية" في النظام السياسي الحزبي، وليس النظام العام فقط، ليعمل الجميع من داخل الجهة والمركز لأجل الوحدة.
سادسا، أن مداخل "ins" ومخارج "outs" النظام الجهوي تعمل مع حكومة بالضرورة دستورية، وإلا أصبح الملك رئيسا للجهات بالمعنى الإداري، واعتبار الوزير الأول رئيس حكومة كفيل وحده أن يكون فيه وضع الجهة مقبولاً من ناحية تمثيلها كذات تشريعية وإدارية مستقلة في الدستور.
المركز في هذه الحالة مركز الجهات وتمركزها، وليس بأي حال تمركز على الذات أو على البيروقراطية التي أنتجت فئة "متكلسة" إدارية ومتغطرسة في الرباط تخدمها الجهات.
وظيفة النظام الجهوي تفتيت البيروقراطية والخروج من حقوق الدولة إلى حقوق المجتمع، حيث تدافع الجهة عن الدولة كمستوى من الإدارة تحتاجه لتحقيق "مستوى حكامي جيد".
هل نقرأ حاليا حقوق الدولة state rights قبل حقوق الجهة ؟ بالتأكيد، توازن الحقوق جزء من الحل، واختلالها جزء رئيس من المشكلة، لقولنا : الجهة "حق لأصحابها ؛ والمنتمون لإقليم جغرافي معين يفسر ميكانيزم العمل على أساس :
أ – أن الدستور يجب أن ينتقل من دسترة الجهة كجماعة ترابية إلى اعتبار النظام الجهوي نظاما وحيداً للإدارة الترابية أو نظاما لإدارة التراب الوطني. فيكون الدستور مرجعا لكل جهة في شرعيتها وسبب وجودها من جانب، وفي اعتمادها حكامة ترابية من جانب آخر.
ب – لابد للدستور أن يتحدث عن مصطلح خطير هو الوحدة الجهوية، فيكون المغرب لفظا دستوريا بوحدته الجهوية والترابية والوطنية.
ج – تحديد الورقة الجهوية "كأسمى وحدة" للدستور، الأمريكيون عملوا على هذه النقطة حيث دستورهم منطوٍ على "أوراق فيدرالية" شكلت الوحدة، والدستور الموحد الذي يعمل على الجهات يجب أن يُدَسْتِرَ العمل الجهوي وعمل الدولة في الجهات على قدم المساواة.
تحديد الجهات من صنع التحديث ونحن نقرأ بوضوح في خطاب 9 مارس : أن الجهة "بنية اجتماعية" وظيفية، قبل أن تكون إدارية بحتة، وهذا يعني أن العمل الديمقراطي يتأسس على الفرد المواطن، وعلى الجهة وبالتالي على الوطن كوحدة.
والصيغة الدستورية يجب أن تعلن بلا مواربة، أن الجهة وحدة unité تدعم الوحدة L'unité الوطنية. الألمان قرروا ذلك، من اعتبار الوحدة حق الدولة، والإدارة الترابية للجهة تفويض من شعب الإقليم أي تفويض من تحت ؛ وتفويض من فوق يسلم جزءا من إدارة السلطات، وليس من السلطات لإنجاح عمل الدولة، والسؤال : هل الجهة سلطة أم لا ؟.
الجهة سلطة ترابية يمارسها شعب الإقليم أو بنية ترابية يفوضها المركز بعض السلطات عبر الدستور.
إن انتخاب المسؤولين ورئيس الجهة يعني أننا أمام "سلطة منتخبة" فهل سيعترف الدستور بالجهة سلطة منتخبة باللفظ ؟
قد يكون هذا الإقرار مدعاة لاستقلال جهوي في القرار يمكِّنه من الطعن في قرار المركز، في حال وضوح الإجحاف. واستيعابا لهذه الطعون ولغير هذه المهمة، أرى أن محكمة جهوية عليا، أو إدارية عليا ستدير الوضع بما يكفل للجميع الوصول إلى الأهداف السامية.
فهل يمكن أن نعرِّف الدولة بسلطها الجهوية ونقر بأن الجهة حق دستوري أصيل يستحيل التراجع عنه، أم يمكن للمركز اعتبار الجهة حكامة وإدارة فيكون حق الجهة "مشروطا أو مفوضا أو منقولا".
ودسترة الحق الجهوي في كل الأحوال ضرورة يجب ألا يتراجع عنها النظام، وإلا تفتت المغرب.
إن صَهْرَ المغرب وذوبانه في بعضه البعض بنى دولة تتبنى اليوم الجهوية لتكريس الحكامة الترابية والحكامة الاقتصادية الاجتماعية. لربح رهان التنمية ؛ والاعتراف بالذات الجهوية أفق للحداثة، لأن الديمقراطية تصنع للتعدد وحدته على أن خياراً آخر يصنع الوحدة انفجاراً للهوية نحو هويات صغرى، والجهوية ليست سوى اعتراف بالذات كما هي ؟!
عبد الحميد العوني عدد 23 ل 8 ابريل 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق