عدد رقم 50 ل 18 - 11 - 2011

عدد رقم 50  ل 18 - 11 - 2011

الجمعة، 6 مايو 2011

كان الهنود الحمر على وشك النجاة من الإبادات لو "اعترفوا" بأنهم مجرد حشرات "رحمتك يا ألله" من الخطاب الاستعلائي الغربي


كان الهنود الحمر على وشك النجاة من الإبادات لو "اعترفوا" بأنهم مجرد حشرات 
"رحمتك يا ألله" من الخطاب الاستعلائي الغربي

مقالة هامة جدا حررها صدرت منذ سنين عن الراحل ريتشارد هولبروك، السفير الأمريكي السابق في الأمم المتحدة، مادامت، من وجهة نظرنا على الأقل، تختزل بشكل لافت بعض طرق التفكير لدى العقل السياسي الغربي، في شقه الأمريكي تحديدا، وتزداد أهميتها عندما يكون موضوعها مأزق الإرهاب، وسبل مواجهة من يعارض سياسات الإدارة الأمريكية في الرقعة العربية والإسلامية، والأمر يتعلق على الخصوص بالإسلاميين الجهاديين، بقيادة تنظيم "القاعدة"، على اعتبار أن التصدي لقرارات الإدارة الأمريكية بالرفض أو النقد لم يعد متوقعا من لدن صناع القرار السياسي العربي الإسلامي، ولا حتى من السواد الأعظم من المفكرين والباحثين العرب والمسلمين، باستثناء قلة قلية، يمكن تشبيه نقدها لممارسات الإدارة الأمريكية بالإمساك على الجمر الأحمر، إذا استعرنا الأثر النبوي الشهير.
سوف نتوقف عند رؤى و"تعليمات" هولبروك لطبيعة التعاطي مع ملفين ساخنين يتعلقان بأقطار إسلامية.
1 ـ ولنبدأ بالمشهد الأفغاني/الباكستاني، حيث يرى الرجل أن "الفشل في أفغانستان سينجم عنه عودة طالبان والقاعدة، وهما خطران بما فيه الكفاية الآن، رغم أنهما محصوران في المنطقة الجبلية الحدودية مع باكستان. ولكنهما سيكونان أكثر خطورة بكثير حال سيطرتهما على مدن مثل قندهار أو ربما كابل، حيث ستكون لديهم القدرة للوصول إلى وسائل الاتصالات الحديثة مع جمهور متدين واسع يمكنهم الاختفاء بينهم". ويضيف المسؤول الأمريكي، في معرض تقييم أحداث المسجد الأحمر، أن الرئيس الباكستاني برويز مشرف كان "محقا حينما هاجم المتطرفين في المسجد الأحمر بإسلام آباد، فذلك الاعتصام المسلح هو تهديد في الصميم للبلد"، و"بالنسبة لمشرف يشكل كمال أتاتورك نموذجا. فمشرف ترعرع لعدد من السنوات في تركيا. وأتاتورك نموذج جيد لكن الظروف مختلفة، إنه من غير الواضح ما إذا كانت باكستان حقا تسير في طريقها كي تصبح مثل الدولة التي كونها أتاتورك".
2 ـ فيما يتعلق بالحالة التركية، يضيف هولبروك أن "آخر نسخة من الانتخابات التركية كانت حدثا تاريخيا مهما. فالغرب قال إن ما يريده هو نسخة معتدلة من الإسلام في العالم"، و"عند أخذ أهمية تركيا الاستراتيجية في الحسبان يكون من المشجع أن نرى انتخابات سلمية تجري عبر عملية ديمقراطية لا تشوبها شائبة". وتعني "الانتخابات بشكل أكثر تفصيلا، ارتفاع أسعار أسهم البورصة، وهذا ما يجعل رجال الأعمال مسرورين". (منذ أيام قليلة ، أقر وزير الدفاع الفرنسي، آلان جوبيه، بحتمية التعامل الإكراهي مع "الإسلاميين المعتدلين"). 
المقتطفات سالفة الذكر، توجز لنا مدى تغلغل "المركزية المتعالية" في رؤى أغلب المسؤولين الأمريكيين، والتي لم تصدر من فراغ، وبالتأكيد ليست وليدة الساعة، ومن يطلع على أعمال الصحفي الألماني الراحل يواخيم فرناو في كتابه الرائع "رحمتك يا ألله.. صفحات مجهولة من تاريخ أمريكا"، أو الباحث السوري منير العكش، ومؤلفه القيم "تلمود العم سام"، وغيرهم كثير (نورمان فنكلشتين، هوارد زن..)، سيصطدم بكم هائل من الأدبيات السياسية الأمريكية التي تعود لقرون خلت، وتصب في شرعنة الإبادة والقتل والاحتلال، تارة باسم تطبيق "الحق الإلهي"، وتارة أخرى، باسم تأدية "الواجب الحضاري"، وغيرها من التبريرات الميكيافيلية المتطرفة.
ففي سنة 1854 كتبت أمريكا إعلانا وجهته إلى أوروبا، تقول فيه: "إن الولايات المتحدة تحتاج من أجل أمنها إلى كوبا، وأن لديها حقا إلهيا في انتزاعها من إسبانيا، بطريقة أو بأخرى". وقد أوجز فرناو أصول الشعب الأمريكي في "قوم جاءوا ضمن شحنات بشرية حملتها السفن من إنجلترا قبل أجيال، وقد رسموا إشارة الصليب وأوهمهم وعيهم المتغطرس أنهم "أصفياء الله"، وحماستهم "الإيمانية الطهورية" كانا مما لا يمكن احتماله، وما إن نزل الآباء أرض أمريكا وهم يصرخون "المجد لله" ويجثون على ركبهم حتى أفسدوا الأجواء باستقامتهم المنافقة، وقناعتهم أن الله سيجزي أفعالهم بالنجاح والذهب".
تذكروا جيدا، ما صدر عن مارك توين ـ في مطلع القرن العشرين ـ ما مفاده أن على "الولايات المتحدة الأمريكية أن تستبدل بنجوم عَلمِها جماجم القتلى".
ـ بالعودة إلى ثنايا إقرارات هولبروك، نبدأ أولا بتقييم المشهد الباكستاني، حيث الإشادة الأمريكية الصريحة بمجزرة المسجد الأحمر، تأسيسا على أن "ذلك الاعتصام المسلح هو تهديد في الصميم لبلد" يترأسه حاكم عسكري يحلم بتكرار تجربة "كمال أتاتورك نموذجا. فمشرف ترعرع لعدد من السنوات في تركيا. وأتاتورك نموذج جيد لكن الظروف مختلفة".
تقييم هولبروك للمشهد يتقاطع بشكل جلي مع إحدى تصريحات الرئيس الأمريكي، جورج بوش الذي رفض استبعاد شن هجمات داخل الأراضي الباكستانية إذا لزم الأمر ذلك، وتجنب بوش الإجابة عن سؤال حول ما إذا كانت القوات الأمريكية ستطلب موافقة الرئيس الباكستاني، برويز مشرف، قبل الدخول إلى منطقة القبائل حيث يعتقد بوجود قادة تنظيم "القاعدة"، مضيفا بالحرف: "أنا واثق أنه في حال وجود معلومات استخباراتية جيدة، سنكون قادرين على إحقاق العدل بحق مسؤولين كبار من القاعدة". (حسب تصريح له صدر يوم 6/8/2007)
يكمن بيت القصيد في الجهاز المفاهيمي للمؤسسة الأمنية الأمريكية في الإقرار والإصرار على قدرة جنود "المازينز" على ما وصفه جورج بوش بـ"إحقاق العدل"، تماما كما صدر يوما عن هورس كريلي ـ في عام 1859 للمفارقة وللتذكير ـ قائلا هو الآخر بالحرف: "ليس لدينا في الأمر حيلة. يجب أن يزول هؤلاء الناس ـ ويقصد الهنود الحمر ـ لقد أعطى الله هذه الأرض للذين سوف يسيطرون عليها وسوف يزرعونها ولا جدوى من مقاومة طبيعة قضائه" (انظر: محمد البغدادي. الإمبراطورية الأمريكية. دار توبقال. الدار البيضاء. 2005. ص 103)
والحال، أن الهنود الحمر وبعدهم السود، كانوا على وشك النجاة من الإبادات الجماعية لو أنهم لعقوا حذاء المنتصر وأقروا أنهم حشرات، وبسبب عدم اعترافهم بأنهم مجرد حشرات، كان لزاما حل مشكلة الهنود ـ نموذجا ـ حلا بيولوجيا نهائيا، وقد نطق تيودور روزفلت في فترة لاحقة بالجملة الدالة التالية: "لو تركنا للهنود أراضي الصيد الخاصة بهم لوضعنا قارتنا تحت تصرف همج قذرين متوحشين؛ لذلك لم يبق أمامنا خيار غير إبادتهم". وروزفلت بالمناسبة، حاز على جائزة نوبل للسلام سنة 1906!
ومن يدري، قد يأتي اليوم الذي يحصل فيه الرئيس الأمريكي الحالي على جائزة نوبل نظير "المهمة الحضارية" التي تقوم إدارته الحالية في معتقل غوانتانامو سيء الذكر، وربما يحصل عليها أيضا برويز مشرف، نظير "المهمة الحضارية" التي تمت في المسجد الأحمر، ومهام أخرى سابقة، ولاحقة، على الأرجح.
ـ نأتي لتقييم هولبروك لنتائج الانتخابات التركية، ونحن مطالبون في هذه الجزئية بالذات بتوجيه الشكر والتحية إلى الرجل، على صراحته وجرأته في تمرير خطاب غربي استعلائي، أشبه بخطاب قائد عسكري لا يعرف سوى الأوامر، ويطلب من المتلقي (العرب والمسلمين) تنفيذ تلك الأوامر، كما تجسدها تحديدا العبارة التالية: "الانتخابات التركية الأخيرة حدث تاريخي مهم. فالغرب قال إن ما يريده هو نسخة معتدلة من الإسلام في العالم".
هذا ما يريده الغرب، ولا يهم ما نريده نحن، لأن الغرب هو المرجع والسيد، ونحن مجرد أتباع أو عبيد أو قطيع من الشعوب، مطالبون بتلبية أوامر السيد الغربي، وإسقاط نموذجه الحضاري في مفاهيم التنمية والتقدم والتنوير. إلخ.
لا يهمنا التوقف كثيرا عند نقد فلسفة التقدم، كما هو مُرَوَّج لها من طرف تيارات العولمة البديلة ومبادرات آل غور في قطاع البيئة، وكما هو مُرَوَّج إجمالا في الغرب والشرق على حد سواء (انظر كتاب جلال أمين الهام الذي يحمل عنوان "خرافة التقدم والتخلف: العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن الواحد والعشرين، والصادر عن دار الشروق القاهرية).
المهم هو التدقيق في الحديث عن أوامر الغرب من طبيعة الإسلام الذي يريد هو، وإذا كان الغرب قد "قال إن ما يريده هو نسخة معتدلة من الإسلام في العالم". فهل المقصود هنا الإسلام الرسمي المعتدل لأغلب الدول الإسلامية العربية، بما فيها دول "محور الاعتدال"، أو إسلام حركات وأحزاب "الإسلام السياسي" المحسوب على التيار المعتدل (من طينة موضة أحزاب "العدالة والتنمية" في تركيا والمغرب وماليزيا)؟ أو إسلام الطرق الصوفية والمهادنة والبعيدة عن الخوض في إبداء مواقف سياسية من التحديات التي تعصف بالوطن العربي والعالم الإسلامي؟
لعل أهم حسنات هذا الخطاب الاستعلائي، كونه يذكر الناطقين باسم العقل الإسلامي المعاصر ("العقل الفقهي" على الخصوص) بأن عدم الحسم مع طبيعة الإسلام الذي نريد، هو الذي يخول لأمثال هولبروك التدخل في ثنايا هذه الإشكالية، والانتقال من مرتبة "التثاقف" والحوار والمناظرة، نحو مرتبة إعطاء الأوامر الذي يروج له في صيغة "إبداء النصح".
أما ما يجمع بين تقاطعات رؤى بوش وهولبروك للملف الأفغاني/الباكستاني، ومعها رؤى هولبروك للمشهد التركي، فنجدها صراحة ودون تلميحات أو تأويلات في ما صرح به دانيال بايبس دون سواه، حسب ما جاء في مقال له صدر في يومية "نيويورك سان" في 5/12/2006، تحت عنوان: "كيف نقضي على الإرهاب؟".
يرى المُنَظِّر اليميني البارز، أن "أكثر صور مكافحة الإرهاب فعالية وكفاءة لا تقاتل الإرهابيين وإنما تقاتل الأفكار التي تحرضهم"، والإحالة هنا صريحة على منظومة "حرب الأفكار" كما طرحا يوما دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي السابق. وتتضمن هذه الاستراتيجية خطوتين أساسيتين حسب بايبس دائما: "الأولى هزيمة الحركة الإسلامية المتطرفة بنفس الطريقة التي تمت بها هزيمة الحركة الفاشية والحركة الشيوعية، على كل مستوى وبكل طريقة، وباستخدام كل الهيئات والمؤسسات العامة والخاصة. ويقع عبء القيام بهذه المهمة أساسا على غير المسلمين، فالمجتمعات المسلمة إما هي عاجزة وغير قادرة أو هي غير راغبة في ذلك". وهذا عين ما صدر عن هورس كريلي وتيودور روزفلت وجورج بوش.
و"في المقابل، فإن المسلمين وحدهم هم القادرون على إنجاز الخطوة الثانية، وهي صياغة ونشر صورة للإسلام تتصف بالحداثة والاعتدال والديمقراطية والحرية والليبرالية والإنسانية وتقبل الآخر واحترام المرأة. هنا يستطيع غير المسلمين المساعدة وذلك بعزل الإسلاميين المتطرفين وعدم التعامل معهم ومقاطعتهم وتأييد المسلمين المعتدلين"، وهذا عين ما طرحه هولبروك في معرض تقييم الانتخابات الرئاسية في تركيا.
لسان حال دانيال بايبس هو أن أوضاع العالم تكاد تكون في حالة سلام ووئام، لولا وجود هؤلاء الإسلاميين المتشددين أو المتطرفين، وعلينا ـ نحن رعاة نظام ما بعد سقوط جدار برلين ونظام ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن سيئة الذكر ـ التوحد من أجل القضاء على هذا الكابوس التنظيمي، والذي يحمل اسم الحركات الإسلامية "الجهادية"، وأما عن باقي الإسلاميين، معتدلين كانوا ـ حركات وأحزاب "الإسلام السياسي"، أو الحركات الإسلامية الدعوية ـ فهؤلاء مقدور عليهم، سواء عبر تدخل مباشر من قبل الأمريكيين هنا وهناك، أو عبر عقد تحالفات مع هؤلاء، أو تعاطي الأنظمة الزمنية الحاكمة معهم.
أهمية مقالة/رسالة ريتشارد هولبروك، لا تنبع فقط من كونها تعبر عن مأزق الإدارة الأمريكية في مواجهة الإسلاميين الجهاديين، بعد أن تم ترويض المعتدلين بالتنسيق مع الأنظمة العربية والإسلامية، وبإقرار مراجعات في التصور والفعل لدى هؤلاء، وهذا تفصيل ثانوي في المشهد، أو "حكاية صغرى" بتعبير أدبيات الخطاب "الما بعد الحداثي"، وإنما تبرز أساسا في التعبير عن مأزق الجهاز المفاهيمي الغربي وإصرار الناطقين باسمه على إسقاط معالم هذا الجهاز على المجال التداولي الإسلامي العربي، كما لو كنا فئران تجارب، أو أنهم يعتقدون بأن هناك قابلية لدى المنتمين لهذا المجال من أجل قبول هذه الإسقاطات كما هي، وتلكم "الحكاية الكبرى" الأبرز.
ازداد يواخيم فرناو في 1909، وتوفي سنة 1988 في فلورانس؛ أي أنه لم يشهد أصلا سقوط جدار برلين، وبزوغ فجر "النظام العالمي الجديد" وتفجيرات نيويورك وواشنطن، ولكنه، حرر مقولة مسؤولة وجريئة بمقياس بؤس نخب اليوم، وجاء فيها أن "المستقبل مضمون لنا، فإذا ربحت نزعة الأمركة فإنها ستدمر البشرية خلال مائة وخمسين سنة، وستواصل الأرض بعدها دورانها في الفضاء الكوني ككوكب المريخ. أما إذا ربح الخير فإن البشرية ستعيش ما قدر الله لها أن تعيش؛ وفي الحالتين: "رحمتك يا ألله".

منتصر حمادة   الكتاب الحدث عدد 25 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق